سلط تحقيق لموقع “دويتشه فيله” الألماني، الضوء على المعاناة الكبيرة للمغاربة من أجل الحصول على تأشيرات (شنغن)، واضطرارهم لشراء موعد من “السماسرة” الذين باتوا يحتكرون جل المواعيد بشكل مريب أمام صمت شركات “المناولة” وسفارات الدول الأوروبية بالمملكة.
وفيما يلي تحقيق موقع “دويتشه فيله”:
إذا كنت تعيش في المغرب وتريد تأشيرة سياحية لدولة أوروبية، فغالباً لن تجد الحل إلّا بشراء موعد ممنّ يستغلون حاجتك. شركات “المناولة” تصمت عن المشكل والسفارات تتدخل باحتشام، تاركة المغاربة تحت قبضة “السماسرة”. فكيف ذلك؟
“مصيبة وكارثة لا أدري هل يعلم بها المسؤولون.. مواعيد التأشيرة تباع بـ11 ألف درهم (حوالي 987 يورو)، أي قانون هذا الذي أعطى لوكالات الوساطة هذا الحق”، تقول الممثلة المغربية المعروفة دنيا بوطازوت، موضحة في منشور على صفحتها في أنستغرام أن الأمر يتعلّق بطلب الحصول على تأشيرات شنغن الأوروبية لأعضاء فرقتها المسرحية، وهي التأشيرات التي تأخرت ما أدى إلى إلغاء العشرات من العروض المسرحية التي كانت مخططة حسب قولها في أوروبا.
القصة جزء من جبل الجليد، فقد تحوّل الحصول على موعد لتقديم طلب الحصول على تأشيرة قصيرة الأمد (شنغن) لعدد من الدول الأوروبية إلى مصدر معاناة لعدد من المغاربة، الذين أضحوا “ملزمين” بأداء مبالغ إضافية لسماسرة حتى يمكنوهم من موعد، وفق افادات وشهادات عديدة. وحسب رسائل واتساب يبعثها هؤلاء للراغبين في الحصول على موعد، فإن مبلغ السمسرة وصل في شهر فبراير الماضي إلى 800 درهما (71 يورو تقريباً) بخصوص مواعيد الحصول على تأشيرة سياحية لألمانيا.
هذا المبلغ ينضاف لمبالغ أخرى إلزامية، كرسوم تأشيرة شنغن المفروضة من الاتحاد الأوروبي، التي تبلغ 80 يورو، بالإضافة إلى الرسوم التي تفرضها وكالات المناولة (شركات تملك حقّ الوساطة لتسهيل الخدمات القنصلية) في المغرب بخصوص هذه التأشيرات، والبالغة حوالي 330 درهماً مغربياً (32 يورو)، ثم مبلغ التأمين الصحي.
“منذ حوالي شهر وأنا أدخل بشكل يومي لموقع TLS Contact بحثاً عن موعد في مكتب الشركة بالرباط دون جدوى. حتى علمت أن المواعيد الجديدة تظهر في منتصف الليل”، تقول سيدة مغربية (فضلت عدم الكشف عن هويتها) ترغب بالحصول على تأشيرة سياحية لألمانيا، مضيفة في حديث لـDW عربية: “لكنني اكتشفت أن حتى هذه المواعيد الجديدة تكون محجوزة أو تُحجز من الأصل! أظن أن هناك تلاعبا أو هناك برنامج رقمي يحجز المواعيد بشكل أوتوماتيكي”.
السمسرة ممنوعة فقط على الورق!
فيما تتولى القنصليات مباشرة معالجة ملفات التأشيرات الوطنية (سواء للعمل أو الدراسة أو للتجمع العائلي) تتيح القنصليات لشركات المناولة معالجة ملفات التأشيرات قصيرة الأمد المطلوبة غالباَ بغرض السياحة، وأحياناً حتى بعض أنواع التأشيرات الوطنية.
الأشهر بين شركات المناولة هي TLS Contact، وهي المعتمدة لدى عدد من القنصليات الأجنبية في المغرب كألمانيا وفرنسا وإيطاليا لمعالجة ملفات طلبات التأشيرة، وهي أكثر شركة يتم إعادة بيع مواعيدها من طرف السماسرة، بحسب إفادات وشهادات.
علاوة على ذلك، كان مواطنون مغاربة يتحدثون عن وجود الظاهرة نفسها في تأشيرات إسبانيا عبر شركة تحمل اسم BLS، لكنّ الظاهرة تراجعت بشكل كبير لدى هذه الشركة بعد إقرار التحقق بالفيديو غداة حجز المواعيد. وكذلك كانت الظاهرة قوية في مواعيد شركة VFS التي تعنى بمعالجة طلبات تأشيرات دول كالأراضي المنخفضة.
تدّعي شركة المناولة TLS Contact على موقعها الإلكتروني أنه يجب عدم الوثوق بالوسطاء الذين يطلبون مقابلاً لأجل منح المواعيد، وتطلب من جميع الراغبين في الحصول على التأشيرة حجزها حصراً على الموقع الرسمي للشركة، مؤكدة أن الأمر يتعلق بـ”ممارسة احتيالية تدينها TLScontact بشدة”، وأن أيّ متضرر يمكنه إشعار الوكالة التي تتبنى “صفر تسامح تجاه هذه الممارسات”.
لكن على الواقع الأمر مختلف تماماً. في مجموعات فيسبوك الخاصة بالأسفار، توجد أمثلة متكررة عن شهادات مغاربة راغبين بالسفر يتحدثون عن وجود سماسرة يبيعون المواعيد، بما أن إيجاد موعد شاغر غير ممكن البتة. عملية السمسرة تبدأ من قيام الوسطاء بحجز جلّ المواعيد حالما تظهر على الموقع، إذ يكونون على علم مسبق بموعد طرح هذه المواعيد للعموم، ويقومون ببيعها للراغبين في السفر.
“يمكننا أن نحجز لك الموعد. أرسل لي نسخة من جواز السفر، ودفعاً مسبقاً بقيمة 500 درهم مغربي (45 أورو) ونحن من نقوم بالحجز، وما عليك سوى أن تقوم بتأكيد الموعد الذي يصلك عبر أداء رسوم الخدمة التي تطلبها شركة TLS contact. وحين يتم إشعارك منها أن الموعد مؤكد رسمياً، تُكمل لنا نحن ما تبقى من مبلغ الوساطة” يقول أحد السماسرة في واحدة من رسائل واتساب التي اطلعت عليها DW عربية، كان قد بعث بها لراغب في السفر إلى ألمانيا.
“تتيح القنصلية الألمانية في الرباط مواعيد الحصول على تأشيرة شنغن بشكل مستمر، لكن كل هذه المواعيد يتم حجزها في فترة زمنية قصيرة جدا” يقول مصدر بوزارة الخارجية الألمانية لـDW عربية، ومن الأسباب، قيام بعض الأطراف بـ”حجز كامل لهذه المواعيد عبر برامج روبوت، لغرض جعل عدد المتاحة منها ضئيل جدا”، مؤكداَ كذلك أن “الخارجية الألمانية على علم بالضغط الكبير الموجود على الراغبين في الحصول على التأشيرة”.
ورغم أن هذا الخلل موجود منذ مدة كبيرة، إلّا أن نسبة قليلة من السفارات الأوروبية من أعلنت عن تدخلها لوقف الثغرة التي تبيض ذهباً للسماسرة. يقول جمال الدين ريان، رئيس مرصد التواصل و الهجرة بأمستردام لـDW عربية: “وجود سماسرة أمر مؤكد. الصيف الماضي تأكدت بعدم إمكانية حجز موعد للتأشيرة السياحية إلّا بعد أداء 150 يورو لأحد السماسرة”، متابعاً أنه راسل الخارجية الهولندية والسفارة الهولندية في المغرب، وأكدا له “وجود المشكل”.
جهود محدودة لوقف الظاهرة
ضمن الإجراءات التي أعلنت السلطات الهولندية عنها حسب ريان، حظر تغيير اسم المستفيد من الموعد بعد حجزه، لكن الأمر غير كافٍ، إذ يستطرد المتحدث أن الكرة توجد كذلك في “ملعب السلطات المغربية التي عليها كذلك التحرّك لوقف الظاهرة”، خصوصاً أن السماسرة يعرضون بشكل واضح خدماتهم سواء على المواقع الاجتماعية أو حتى قرب القنصليات.
متحدث باسم الخارجية الهولندية، أكدّ لـDW عربية أن سلطات بلاده اتخذت عدة تدابير لمواجهة عمليات السمسرة، بعد انتشار عدة شكاوى من مواطنين مغاربة، ومن ذلك: “العمل بلائحة انتظار رقمية منذ نهاية 2022، وهي اللائحة التي تتيح عدم بيع أو إعادة بيع المواعيد من طرف الوسطاء”.
من جهتها، قرّرت القنصلية العامة لإيطاليا في الدار البيضاء بداية هذا العام استبدال شركة TLS Contact بشركة أخرى، وهي الشركة ذاتها التي اتهمتها اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي (هيئة مغربية) رسمية) قبل أسابيع بتسريب صور من كاميرات المراقبة نحو مؤسستين حكوميتين بالخارج. وحاولنا الاتصال بشركة TLS Contact لكنها لم ترد على طلب التعليق الذي بعثناه عبر الإيميل.
وكان القنصل العام الإيطالي بالدار البيضاء ماركو سيلفي كان قد نشر خلال شهر سبتمبر 2022 شريط فيديو تحدث فيه عن وجود تلاعبات في المواعيد التي تقدمها هذه الشركة ووجود ممارسات للوساطة، لكنه أشار حينها إلى أن محاربة هذه التلاعبات ستتم مع الشركة.
وأكد القنصل الإيطالي لـDW عربية وجود عملية انتقالية لتغيير شركة المناولة وأن الانتقال النهائي سيتم خلال الأشهر المقبلة دون أن يدلي بمعطيات أخرى.
كما تحدث المصدر بوزارة الخارجية الألمانية لـ DW عن “وجود إجراءات جديدة لمنع حجز المواعيد” من طرف السماسرة والوسطاء غير المصرح لهم، دون أن يفصح عن هذه الإجراءات، مشيراً إلى أن هؤلاء الوسطاء لا يملكون القدرة على الولوج إلى نظام المواعيد الخاص بالسفارة. لكنه يشير إلى أن إسناد تقديم الطلبات إلى TLS Contact غرضه “تحسين شروط العملية”، إذ إن عدم استقبال القنصلية لطلبات تأشيرات شينغن بشكل مباشر، “يتيح لها وقتاً أكبر لتقييمها واتخاذ قرارات” بشأنها حسب قوله.
ويؤكد عادل تشيكيطو، رئيس العصبة المغربية لحقوق الإنسان لـDW عربية أن شركات المناولة لا تقوم بعملها كما يجب، وهناك اعتراف من جلّ السفارات بوجود “عمليات للسمسرة” دون أن تتدخل لحل المشكل، مؤكداً أن جمعيات حقوقية مغربية التقت بمسؤولين أوروبيين كسفيرة بعثة الاتحاد الأوروبي في المغرب، باتريشيا لومبارت كوزاك، ولم يتم لحد الآن المباشرة في عمليات إصلاح كبرى لوقف “حرمان مغاربة من التنقل”.
هل هناك عوامل سياسية؟
خلال جائحة كورونا، أوقفت الدول الأوروبية منح التأشيرات السياحية، وجعلت السفر إليها (لغير الحاملين لجنسياتها وغير المقيمين) مرتبط فقط بما هو ضروري. ولم تُعِد هذه البلدان العمل بالتأشيرة السياحية إلّا مع تخفيف قيود السفر العالمية وتراجع معدلات الإصابة، ما جعل القنصليات الأوروبية في المغرب تستقبل منذ بداية 2022 عددا كبيراً من طلبات الحصول على تأشيرات شنغن.
وتتحدث بعض القنصليات عن وجود ضغوط عليها. المتحدث باسم الخارجية الهولندية يؤكد أنه بعد تخفيف قيود السفر، تضاعف الطلب على التأشيرات السياحية إلى هولندا، وزاد من ذلك “نقص الموظفين”، وكذلك “تراجع عدد التأشيرات الأوروبية الممنوحة من سفارات أوروبية أخرى في المغرب، ما ضاعف عدد الطلبات الموجهة إلى هولندا”، فضلاً عن ظاهرة “المتاجرة بالتأشيرات”.
الخلافات السياسية زادت من المشكل. فرنسا أعلنت بشكل واضح في سبتمبر 2021 تقليص عدد تأشيرات الدخول إلى ترابها انطلاقاً من المغرب والجزائر وتونس بسبب خلافات في ملف الهجرة، ما أدى إلى تراجع عدد التأشيرات. وتقول باريس إن المغاربة حصلوا على حوالي 142 ألف تأشيرة عام 2022، وهو رقم أقل بكثير من رقم عام 2019 عندما بلغ الرقم 342 ألف تأشيرة.
وتتحدث تقارير مغربية عن نسب رفض في الفترة الحالية من السلطات الفرنسية تصل إلى ما بين 70 و 80 بالمائة، ما مع يتبع ذلك من خسارة المغاربة لمبالغ طائلة بما أن رسوم طلب التأشيرة لا تُسترجع في حال الرفض.
ورغم أن باريس أعلنت قبل أشهر عن تعليق قرار خفض التأشيرات، فلا تزال نسب الرفض مرتفعة وفق رسالة وقعتها تسع منظمات غير حكومية مغربية شهر فبراير الماضي، وذلك في سياق أزمة صامة بين المغرب وفرنسا. ولم نتوصل برد فرنسي خلال كتابة التقرير.
المبرٍّرات التي اعتمدتها فرنسا هي مبرّرات سياسية لا علاقة للمواطنين المغاربة بها” يقول عادل تشيكيطو، مضيفاً أن مغاربة كثر رُفضت طلبات تأشيراتهم، ليس فقط الراغبين في زيارة أفراد أسرهم، بل كذلك طلبة أدوا رسوم الدراسة، ومغاربة كانوا يرغبون بالسفر لأجل العلاج، وآخرون حُرموا من العمل في أوروبا رغم توفرهم على عقود عمل. ويؤكد تشيكيطو أن الحالات كثيرة ولا تخصّ فقط القنصليات الفرنسية، بل كذلك القنصلية الألمانية.
من جهتهما، تجاوز المغرب وألمانيا أزمة سياسية وقعت عام 2021 دون أن ينعكس ذلك إيجاباً بشكل كبير على ملف التأشيرات. وفيما لم تفرج الخارجية الألمانية عن أرقام 2022، فإن عام 2021 شهد منح 580 تأشيرة شنغن فقط من قنصلية الرباط، وهو رقم لا يقارن أبدا بما قبل الجائحة، عندما تم منح 12.867 تأشيرة شنغن عام 2019.
يحدث في وقت يؤكد فيه مغاربة كثر، أن مشكلة التأشيرات الألمانية لا تخصّ فقط شنغن، بل كذلك التأشيرات الوطنية، ما دفع عدة طلبة للاحتجاج أمام السفارة الألمانية ديسمبر الماضي، بسبب تركهم ينتظرون لعدة أشهر رغم حصولهم على الموافقة الجامعية، في تكرار لما نشرته DW عربية من قضاء المغاربة لوقت طويل في انتظار التأشيرات، حتى قبل كورونا، وحتى مع الحاجة الكبيرة إليهم، ومن ذلك الكفاءات الراغبة في العمل.
تعليقات الزوار ( 0 )