ناظورسيتي: فكري أولد علي
من تمسمان، حيث تتعانق زرقة المتوسط مع ضوء الشمس الذهبي، وتنشد الجبال أنغام الريح، خرجت صابرينا، صوتٌ يشبه النسيم، لا يستطيع الأسير أن يقيّده. وملامحها، التي تحمل نكهة الحكايات المخبأة في ذاكرة الريف، ارتبطت بجغرافيا هذه الأرض التي تمتد على الضفة الجنوبية للمتوسط. ومن هناك، بدأت الحكاية
منذ صغرها، كان صوت صابرينا يلامس آذان كل من حولها، كانت تغني أغانٍ لعمالقة الفن الأمازيغي الريفي، لكن صوتها لم يكن مجرد صدى، بل كان وعدًا بعهد جديد، بميلاد نجم يسطع في سماء الفن، وفي عام 2003، بدأت انطلاقتها الفنية، لكنها لم تكن بداية بحث عن جمهور، بل كانت لحظة ولادة صوتٍ يعبر عن الريف بكل تفاصيله.
لم تكن صابرينا مجرد فنانة صاعدة تبحث عن الشهرة؛ بل كانت تجربة موسيقية تحمل بداخلها حنين الريف، في صوتها جمال الجبال وضوء الشمس وذكريات الأرض، وبسرعة، أصبحت أحد الأصوات المألوفة على المسارح والمهرجانات في شمال المغرب، ومن ثم تجاوز حدود الوطن ليصل إلى الجالية المغربية في الخارج، ووجدت هذه الجالية في صوتها الحنين إلى الوطن، الحنين إلى الأرض، إلى الحرية، إلى الأم، وإلى عبق التراب الذي يحكي قصص الأجداد.
في أغنياتها، كانت صابرينا تعزف لحنًا مختلفًا، حيث تحضر الأرض كما تحضر السماء، تغني للطير الذي يطير بعيدًا ولكنه لا ينسى عشه، تغني للمرأة، للأم، للإنسان بكل ما يختلج في قلبه من أحلام وآمال، وأحيانًا من شجن، لم تكن فنانة تقتصر على الأداء فحسب، بل كانت مرآة تعكس هموم الناس وتطلعاتهم، وكأنها بكل نغمة كانت تتنفس هموم الريف وتضرب جذور فنها في تفاصيل الحياة اليومية.
لكن الطريق إلى النجاح لم يكن مفروشًا بالورد، إذ واجهت صابرينا تحديات عدة على مختلف الأصعدة، عرفت أنها لا يمكن أن تعتمد على الشغف وحده لتحقيق النجاح، بل على الصبر والإصرار، تحديات الحياة لم تهزمها، بل جعلتها أكثر قوة وصلابة، كانت تصرّ على أن الفن الحقيقي لا يولد إلا من رحم المعاناة، وأن التحديات هي التي تصقل الموهبة وتُظهِر معدن الفنان الحقيقي.
خلال مسيرتها الفنية، انتقلت صابرينا بين مدن مختلفة مثل الحسيمة، وطنجة، والرباط، والناظور. كانت كل مدينة تمثل مرحلة جديدة من التطور الفني والتجديد، كانت تبحث عن آفاق جديدة، عن لقاء مع جمهورها، عن كلمات جديدة وحكايات لم تُروَ بعد، وفي هذا البحث المستمر، تعاونت مع العديد من الفنانين، وشاركها الكثيرون في هذه الرحلة الفنية التي لا تنتهي.
صابرينا، التي خرجت من تمسمان، لم يكن صوتها فقط صدى للبحر والشمس والجبل، بل كان تجسيدًا لحياة تلك الأرض، الحافلة بالتنوع والثراء. كان في نبرات صوتها زرقة البحر ودفء الشمس، وفي كل نغمة كانت هناك إشراقة الجبال وصخورها، لقد صنعتها الطبيعة، وجعلت منها فنانة لا تنكسر، قوية كالجبل، صلبة كشواطئها، وحساسة كأنفاس الرياح التي تعانق البحر.
صابرينا لم تأتِ من أي مكان عابر، هي ابنة تمسمان، وهي واحدة من نسل قبيلة عريقة ومعروفة، من هناك، من تلك القرية الجميلة التي يقع فيها ضريح سيدي شعيب، أتى الفن إلى حياة صابرينا، فهذا الضريح يعتبر مكانًا مقدسًا في الثقافة الشعبية، إذ يُقال إنه لا يمكن للفنان أن يسلك درب الفن بشكل صحيح إلا بعد المرور من هذا المكان، الذي يمثل روح الفن ورسالته، كان الضريح يقف كمرصد روحي للفنانين، يوجههم ليبحثوا عن أفق أوسع وأرض أكثر رحابة لفنهم.
تمسمان، تلك القبيلة التي أسرت الطبيعة فيها الروح، خرجت منها العديد من الأصوات الفنية والغنائية الكبيرة التي ساهمت في صنع مجد الأغنية الأمازيغية الريفية، من هناك انحدر العديد من الفنانين الذين حفرت أسماؤهم في ذاكرة الأغنية الشعبية، مثل الشيخ موحند، والشيخ عيسى، وعبد الحميد التمسماني، وقوسميت ونجاة الحسيمية وغيرهم من الفنانين الذين شكّلوا جزءًا من الهوية الثقافية لهذه المنطقة.
صابرينا، إذن، ليست مجرد فنانة تسعى إلى الشهرة أو منصات الأضواء، بل هي امتداد لروحٍ قديمة تسكن جبال تمسمان، وجزء حي من هذا الامتداد الفني الذي ظل يتنقل من جيل إلى آخر، كأنّه ميراث سريّ تتناقله الأرواح قبل الأجساد، ما تُغنّيه ليس مُستقى من نظريات الفن أو قواعد الموسيقى فحسب، بل من تقاليد ضاربة في عمق الريف، من طقوس الغناء الجماعي، ومن المواويل التي كانت النساء ترددنها في الحقول، ومن أصوات الجدات وهن يهمسن بالحكايات القديمة تحت ضوء القمر.
صابرينا تشبه هذا الامتداد الثقافي العميق، هي استمرار لذلك الخيط الشفاف الذي يربط الماضي بالحاضر، والذي يجعل من الفن ذاكرة حية لا تموت، وكما تتوارث القبائل حِرفها وطقوسها، فإنّ صابرينا ورثت صوتها عن الوجدان الجمعي لقبيلتها، عن الجبال التي كانت تحفظ الأغاني في صدورها، ثم تمنحها لمن يستحق أن يغنّيها، موسيقى صابرينا، بهذا المعنى، لا تقتصر على الكلمات والألحان، بل تتجاوزها لتصبح تجربة وجودية، نوعًا من التأمل العميق في جوهر الأشياء، حين تغني، لا تنقل فقط عاطفة، بل تفتح نوافذ على عوالم مسكونة بالشجن والدفء.
هي لا تؤدي الأغنية أداءً مجردًا، بل تعيشها، تنسجها من تفاصيل الحياة اليومية، من وجوه الأمهات في القرى، من نحيب الأرامل، من صبر الفلاحين، من العشب الذي ينمو رغم القحط، تغني للحب كحالة إنسانية متجاوزة، لا كموضوع استهلاكي، وتغني للمرأة لا كرمز مستهلك في الأغنية التجارية، بل ككائن نبيل يحمل وجع الأرض ويمنحها معنى، كل أغنية لصابرينا هي لحظة انكشاف، اعتراف، وربما هي صلاة هادئة تُرفع بلغة لا تفهمها إلا القلوب
ومع مرور السنوات، لم تكن صابرينا تكبر فقط في الشهرة، بل في الوعي أيضًا، ازدادت نضجًا، وتحوّل فنها من مجرد تعبير جمالي إلى رسالة تحمل مواقف ورؤى، بدأت تتلمّس في أغانيها هموم الناس الصغيرة، وتشتبك مع أسئلتهم الكبرى، غنّت عن الغربة لا كمجرّد ابتعاد عن الوطن، بل كتمزّق داخلي، وكقصة بحث عن الذات في مرايا الغياب، غنّت عن المرأة لا كزينة للمسرح، بل كصوت له جذور في الأرض وامتداد في الحلم، أغانيها الأخيرة تبدو أكثر التصاقًا بالحياة، أكثر امتلاءً بالصدق، وأكثر قدرة على الوصول إلى أعماق الناس، لأنّها لم تعد تُغنّي فقط لتُسمع، بل لتُفهَم، وتُحسّ، وتُعاش.
وهكذا، لم تعد صابرينا فقط ابنة تمسمان، بل صارت رمزًا لكل من يؤمن أن الفن ليس ترفًا، بل ضرورة، رمزًا لصوت يأتي من أعماق الريف، لكنه يصل إلى أعالي المدن والقلوب، صارت مثالًا للمرأة التي تشقّ طريقها وسط العواصف، بلا ادعاء، وبلا أقنعة، تاركة صوتها يعبُر حدود الجغرافيا ليقول: أنا هنا، بقي صوتها يقاوم النسيان، ينسج الحضور من غياب، ويعيد تعريف الغناء كفعل أصالة، ومع كل أغنية جديدة، تواصل صابرينا حفر اسمها لا في لائحة الفنانين فقط، بل في ذاكرة الناس، في أرشيف الحنين، وفي سجلّ الأغنية الأمازيغية التي وجدت فيها قلبًا جديدًا ينبض باسم الحياة.
موسيقى صابرينا ليست مجرد كلمات وألحان، بل هي تصوير حقيقي للعالم الذي نشأت فيه، هي تأملات عميقة في قضايا الحياة، في الإنسان، في الحب، في الحرية، وفي الوطن… صابرينا هي صوت الجيل الذي لا يرضى بالقيد، غنت وعبرت عن كل التناقضات التي تحيط بواقع الإنسان، حملت صوتها إلى العالم، وظلت وفية لجذورها، كأنها تقول في كل أغنية: "أنا من هناك… من تلك الأرض التي لا تنسى أبناءها.
تبقى صابرينا صامدة، متجددة، ترفض أن تُحدّها قوالب الجاهز والمألوف، تمضي بخطى ثابتة، كأنها تعرف أن الزمن قد يخذل الأسماء السريعة، لكنه يُنصف الأصوات التي تُولد من عمق التجربة وصدق الإحساس، في كل أغنية تقدمها، ثمة رسالة، وثمة ضوء صغير تهديه للأجيال التي تأتي من بعدها، كي لا تضلّ الطريق وسط زحام الإيقاعات، هي ليست فقط مطربة تُرضي جمهورًا، بل صوتٌ يقترح مسارًا، وخيطٌ من ذهب يربط الماضي بالحاضر دون أن يُقطَع.
حين تغني صابرينا، يشعر المستمع أنّ جبال تمسمان لا تزال تروي حكاياتها، وأن البحر ما زال يصفق لإيقاعها، وأن روح الفن النقي لا تزال تجد ملاذًا في هذا الصوت، سيُحكى عنها، كما يُحكى عن الكبار، وستُتلى أغانيها كما تُتلى القصائد، وستبقى نبراتها تهمس في آذان كل من يعشق الفن الذي لا يُشترى، ولا يُباع، بل يُعاش.

كتب في 12 مايو 2025
تعليقات الزوار ( 0 )